ابناء تاتشر في الإخوان وفي الإنقاذ

[???? ?????? ???? \"??????\" ??????] [???? ?????? ???? \"??????\" ??????]

ابناء تاتشر في الإخوان وفي الإنقاذ

By : Wael Gamal وائل جمال

الزومبى (الميت الحي كما نراه فى مئات أفلام الرعب الهوليودية) هو جثة متحركة أحيتها أعمال السحرة. فوفقاً لمعتقدات الفودو في غرب إفريقيا فإن الشخص الميت يمكن إبقاؤه حياً عن طريق بوكو (ساحر)، ويصبح تحت سيطرة البوكو لدرجة أنه لا تصبح له إرادة مستقلة.

●●●

ماتت تاتشر لكن المشروع السياسي الاجتماعي الاقتصادي الذي يحمل اسمها بفعل قيادتها الأسطورية الدموية لفرضه في بريطانيا، مازال معنا كالميت الحي. وفي مصر، تزاوجت ذروة التاتشرية مع مشروع توريث الحكم من حسني مبارك لابنه فغيرت العشر سنوات الأخيرة من حكمه طبيعة التحالف الحاكم ونمط المصالح الذي يمثله الحكم لصالح نخبة جديدة من رجال الأعمال والحزب زاحمت قاعدة التأييد السياسية في البيروقراطية والجيش، التي طالما استند عليها الأب. 

عادة ما تعرف التاتشرية بأنها التدشين الأول للسياسات الليبرالية الجديدة، كما تسمى أحياناً أخرى الريجانية وأحياناً ثالثة بسياسات إجماع واشنطن. لكن كل هذا يعني شيئاً واحداً: «حقيبة الطوارئ المحملة بأفكار مؤسسة على الفهم الأصولي للأسواق على أنها تصحح نفسها بنفسها، وتخصص موارد المجتمع بكفاءة وتخدم الصالح العام بأفضل طريقة». (بحسب وصف الاقتصادي الأمريكي البارز جوزيف ستيجليتز الحائز على نوبل والذي كان نائباً لرئيس البنك الدولي في مقال له فى يوليو 2008 تحت عنوان: «نهاية الليبرالية الجديدة؟»).  تشمل هذه السياسات دائما ترويجاً عالمياً للخصخصة وتحرير الأسواق وانسحاباً للدولة من الاقتصاد وتسييداً للانضباط المالي على حساب مستويات المعيشة في انتظار أن يرفع المد الذى يتوجه لقمر مجتمع الأعمال والشركات الكبرى مراكب الفقراء في وقت ما لاحقاً.

وكما كان الأمر في العالم كله. لم يكن هذا التحول مجرد مسألة قرار فني اقتصادي، بل كان مشروعاً سياسياً بامتياز، أعاد توزيع الثروة لحساب الأغنياء، ومد أذرع سيطرة الشركات المحلية والعالمية لمساحات كانت الحركة النقابية والمجتمع المدني والمهمشون قد انتزعوها في عصور دولة الرفاه أو رأسمالية الدولة الراعية التي سبقته. وفي مصر رأينا كيف حوَّل مشروع الاصلاح الاقتصادي في ذروته على يد نظيف الثروة العامة لقلة من الشركات والبنوك والمؤسسات المالية الكبرى والمحتكرين في التجارة والإنتاج لكي تكون قادرة على إنجاز تراكم رأسمالي يمكنها من المنافسة الدولية، ولكن على حساب ملايين المصريين. ورأينا كيف حرك تحالف المصالح الجديد بعد أن رمى مرساه في بحر السيطرة الاقتصادية تغييراً جذرياً في حزب مبارك الحاكم، ثم في حكومته، ثم في مجلس شعبه، مما ولَّد مقاومة اجتماعية وسياسية متصاعدة منذ 2004. ثم أسقطت ذروة هذه المقاومة الشريحة العليا من ممثلي النظام السياسيين في ثورة يناير ومعها مشروع الحكم السياسى الذي كانت تدفع وراءه: توريث الحكم لجمال مبارك. لكنها فقط هزت تركيبات المصالح وتحالف الحكم الذي كان وراءه وبقى كالميت الحي قابعاً يبحث عن ممثلين سياسيين جدد. 

 فلننفض غبار السياسة عن المصالح

منذ اللحظة الأولى لثورة يناير، كان هناك توافق بلا إتفاق على تجاهل طبيعتها الاجتماعية كثورة على المشروع الاقتصادي الاجتماعي لنظام مبارك. وبينما مر مرسوم يحظر الإضراب العمالي ويحول المضربين للمحاكم العسكرية بدون ضجة كبيرة من قيادات العمل السياسي جرفونا جميعاً لكى تصبح الثورة ومستقبلها متوقفين على هذه المادة أو تلك فى الدستور أو ترتيب العملية الإنتقالية أو شروط الترشح للرئاسة.. إلخ. وعندما تم اكتشاف المأزق الاقتصادي متأخراً جداً بعد أن ضاق الحال أكثر بقاعدة صناع الثورة في الشوارع وأماكن العمل فخرجوا يقطعون الطرق ويحتجون مطالبين بالأجور ومقاومة الفساد والاحتكار (معدل الاحتجاج الاجتماعي فى 2012 قفز لخمس أضعاف متوسطه في سنوات قبل الثورة)، فاجأونا جميعا بالتوافق الغائب: كلهم تاتشريون. (دائما كانت تظهر أزمة الاقتصاد كورقة سياسية للضغط على احتجاجات الشارع وكفى). 

فى تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعى تويتر مساء السبت الماضى يقول د. محمد البرادعى ما نصه :» صندوق النقد لا يفرض «شروطاً». ما يطلبه ومعه المستثمرون بل والمصريون أنفسهم سياسات اقتصادية متكاملة وتوافق مجتمعي. الكرة فى ملعب النظام». وفي الأول من الشهر الحالي، اعتبر السيد عمرو موسى، قيادة أخرى في معسكر «المدنيين» أنه من الضروري أن تبدأ الحكومة في وضع خطة تقشف اقتصادي «كحل أمثل لمواجهة الأزمة الاقتصادية» وأن ذلك سيكون مؤشرا لجدية التعامل مع الأزمة الاقتصادية». ولا يختلف موقف حزب الوفد كثيراً عن ذلك، وهو دعامة ثالثة فى جبهة الإنقاذ المعارضة.

ويقول بيان بعثة صندوق النقد الدولي، التى غادرت مصر الأسبوع الماضي بعد أن التقت قيادات المعارضة  «المدنية» ما نصه: «ولقد تشجعت البعثة بالمواقف والآراء البناءة المقدمة من ممثلي الأحزاب السياسية بخصوص الإصلاحات الاقتصادية والدعم المرتقب من الصندوق، وأقرت جميع الأطراف بضرورة حماية الفئات الفقيرة والتي قد تتضرر عند تطبيق إجراءات الإصلاح».

أما الإصلاح الذى يتحدث عنه الصندوق وعن التوافق بشأنه (بشرط حماية الفقراء) والذي أوقف اتفاقاً أولياً وقع في ديسمبر لأنه تم التراجع عن بعض إجراءاته، (يقال لنا إن القرض بلا شروط)، فهو نسخة مما كان يسعى يوسف بطرس غالي لعمله على مدى سنواته في الوزارة: تخفيض عجز الموازنة على حساب أي شيء وكل شيء وعلى رأسه الإنفاق العام على الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها، سياسات ضريبية توسع قاعدة الدافعين الفقراء وتغفل المضاربين ورجال الأعمال.. الخ. في مسألة الثورة الأولى: العدالة الاجتماعية يظهر لنا اصطفاف جديد يتجاوز الانقسام المدني - الديني: أبناء تاتشر من العلمانيين والإسلاميين فى المعارضة والحكم في مواجهة طموحات ملايين المصريين في نظام عادل وكفء اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. 

 قاعدة مصالح أبناء تاتشر

فى 2005، كنت أعد تقريراً لبى بى سى العربية عن الصعود السياسى لرجال الأعمال في مصر، وتوجهت بالسؤال لرجل الأعمال صلاح دياب الذي كان عضواً قيادياً وقتها فى حزب الوفد عن وجوده فى حزب معارض مقابل من انضموا للحزب الوطني. وكان رده صريحاً بطريقة مدهشة: لابد وأن نوزع أنفسنا على أحزاب مختلفة لكي نضمن المستقبل. ويبدو أن نفس الحال يصدق أيضاً فى تلك الأحزاب والقيادات السياسية التى تبحث عن موطئ قدم فى قاعدة المصالح تلك عوضاً عن تمثيل الأغلبية في مواجهتها. لكن ما هو وضع قاعدة المصالح تلك بعد سنتين من الثورة؟ 

لا شك أنه كانت هناك ضربة موجعة للمستفيدين من التاتشرية المصرية. بعضهم في السجن، وبعضهم فر خارج مصر وبعضهم هرَّب المليارات أو حول أعماله. ومشروعهم السياسي للسلطة منىزبهزيمة مدوية. لكن الحقيقة تقول إنهم ما زالوا يمسكون بزمام الاقتصاد ومنه إلى السياسة: ما زالوا طرفاً أصيلاً فى حكم البلد يتنافس على وده الطامحون لكراسي السياسة. 

نجح هؤلاء على مدى السنتين الماضيتين في إيقاف كل الإجراءات (التي تستحق وصف الإصلاح) التى تعيد بعض التوازن العادل اجتماعياً فيما يتعلق بالأجور وساعات العمل وشروط العمل والضرائب وغيرها. نجح هؤلاء فى صيانة البورصة من أية ضرائب منطقية وإيقاف ضريبة الأرباح الرأسمالية مرة بعد مرة حتى بعد أن تصدر، بينما تصرخ بإجراءات تقشف حكومي. نجح هؤلاء في أن تكون الحقائب الوزارية الاقتصادية في حكومة الرئيس مرسي من الموالين بل إن أحد الوزراء كان موظفاً في شركاتهم ومتهماً بممارسات احتكارية قبل تقلده مقعد الوزارة. نجحت دوائر المصالح التي نمت في عهد جمال مبارك أيضا في الإبقاء على المناصب الأساسية في اتحادات الأعمال وفي البنوك الكبرى تحت أيديهم. بل نجدهم بشخوصهم في اللجان الاقتصادية بأحزاب المعارضة المدنية. كما نجح هؤلاء في إيقاف إجراءات مكافحة الفساد وفرض سياسات تصالح تعفيهم من جرم نهب ثروة الشعب ومخالفة القانون مقابل رد مال قليل للخزانة العامة. نجحوا أيضا في حماية احتكارات الإنتاج والتجارة الخارجية والمحلية. أما الموازنة الجديدة، التي أشرف على إعدادها مسؤولون من اللجنة الاقتصادية لحزب الحرية والعدالة، ففيها نرى تراجعاً للاستثمارات العامة الحقيقية يخفض معدل الاستثمار ل 14% وضرائب على الفقراء قبل الأغنياء، بل نرى فيها عائداً متوقعاً لعمليات خصخصة يصل لنصف مليار جنيه، بعد أن أبلغنا د. محمد جودة المتحدث باسم اللجنة أنه سيتم استئناف الخصخصة لعلاج عجز الموازنة. 

بل إنه على الرغم ممن صدعوا أدمغتنا بخسائر البورصة وخسائر الاقتصاد، فإن نظرة على أداء القطاعات الأساسية في التراكم الرأسمالي فى عصر صعود جمال مبارك تخبرنا بأن ماكينة الأرباح تدور براحتها باستثناء بعض الشركات المتورطة في قضايا منظورة أمام القضاء. فلننظر فقط لقطاعات البنوك والاتصالات والحديد والألبان. ويقدر بنك الاستثمار إى اف جى هيرميس في توقعاته لنتائج الشركات المسجلة في البورصة فى الربع الأول من 2013 نموا في الأرباح (مقارنة بالربع السابق) بمتوسط  62.7% بقيادة الشركات الصناعية (58.1% نمو فى الأرباح) والاتصالات (134%). أما النمو مقارنة بالسنة السابقة فالمتوسط هو تراجع 16% لكننا نرى –وفقا لتوقعات هيرميس ــ نموا 22% في أرباح شركات مواد البناء والمقاولات و16.2% فى شركات المواد الغذائية (منها جهينة )، و20% نموا فى أرباح الشركات الاستهلاكية (غبور والنساجون الشرقيون) و9.4% للبنوك.

لهؤلاء يسعى ويعمل أبناء تاتشر فى الإخوان وفى أغلب المعارضة المدنية. 

●●● 

يعدد جوزيف ستجليتز في مقاله أوجه الفشل العالمى لليبرالية الجديدة وأبناء تاتشر: عدم المساواة والانحياز للأغنياء، فشل في تخصيص كفء الموارد الاقتصادية، لم تحم سياسات السوق العالم من ارتفاعات هائلة في أسعار الطاقة والغذاء بل ربما كانت سبباً فيها أصلاً ثم إيقاع العالم فى أعمق أزماته الاقتصادية منذ الثلاثينيات، رافضاً ما يقول إنه محاولة أنصار أصولية الأسواق لتحميل الحكومات المسؤولية عن الفشل بدلاً من سياساتهم الفاشلة. «كانت أصولية السوق النيوليبرالية دائماً مذهباً سياسياً يخدم مصالح معينة. لم تدعمها أبداً النظرية الاقتصادية، ولا التجربة التاريخية كما يتضح لنا الآن». طوبي لمن يحاربون «بوكو» المصالح لإسقاط «زومبي» تاتشر فى مصر.

[عن جريدة "الشروق" المصرية ويعاد نشرها بالإتفاق مع الكاتب.]

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]